فصل: تفسير الآيات (71- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (60- 63):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)}
قلت: {رأيت المنافقين}، وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالنفاق وذمًا لهم به. وكان القياس: رأيتهم، و{صدودًا}: مصدر، أو اسم مصدر الذي هو الصد، والفرق بينه وبين المصدر: أن المصدر اسم للمعنى الذي هو الحدث، واسم المصدر اسم للفظ المحسوس، و{يحلفون} حال. و{في أنفسهم} يتعلق بقُل، وقيل ببليغًا. وهو ضعيف؛ لأن الصفات لا يتقدم عليها معمولها، اللهم إلا أن يتوسع في الظروف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم تر} يا محمد {إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} وهم المنافقون، {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت}، كعب بن الأشرف لفرط طغيانه. وفي معناه كل من يحكم بالباطل، {وقد أُمروا أن يكفروا به}، ويؤمنوا بالله ويرضوا بحكمه. {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا}، بأن يصرفهم عن حكم الله ورسوله.
قال ابن عباس: إنَّ منافقًا خَاصَمَ يَهُودِيًّا فَدَعَاهُ اليَهُوديُّ إلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي بالحق؛ فلم يرض المنافق، وقال: نتحاكم إلى عُمَر، فقال اليهودي: نعم فذهبا إلى عمر رضي الله عنه فقال اليهودي: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضى بقضائه وخاصم إليك، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟. قال: نعم، فقال: على رسلكما حتى أخرج إليكما، فدخل وأخذ سيفه فخرج، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله ورسوله، فنزلت الآية.. وقال جبريل رضي الله عنه: إن عمر فرّق بين الحق والباطل. فسُمي الفاروق.
{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين} أي: بعضَهم، {يصدون عنك} غير راضين بحكمك {صدودًا} عظيمًا. {فكيف} يكون حالهم {إذا أصابتهم مصيبة} كقتل عمر المنافقَ، بسبب ما قدمت {أيديهم} من عدم الرضى بحكم الله، {ثم جاؤوك} يطلبون ديّة صاحبهم، {يحلفون بالله إن أردنا} بالإنصراف إلى عمر {إلا أحسانًا} منه بالخصمين، {وتوفيقاً} بينهما، قطعًا للنزاع بينهما، قال تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} من النفاق، فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من الله شيئًا، أو يعلم الله ما في قلوبهم من الطمع في الدية، {فأعرض عنهم}، أي: عن قبول معذرتهم ولا تمكنهم من طمعهم، {وقل لهم في أنفسهم}، أي: خاليًا بهم {قولاً بليغًا} يبلغ إلى قلوبهم، ويؤثر فيهم، لينزجروا عن طلب دم صاحبهم، وإنما أمر أن يعظهم خاليّا لأن النصح في ذلك أنجح، وأقرب للقبول، ولذلك قيل: من نصحك وَحدَكَ فقد نصحك، ومن نصحك مع الناس فقد فضحك. والله أعلم.
الإشارة: كل من دخل تحت ولاية شيخ التربية، وجب أن يرد حكوماته كلها إليه، ويرضى بما قضى عليه، وترى بعض الفقراء يزعمون أنهم في تربية الشيخ وتحت أحكامه، ثم يتحاكمون إلى حُكام الجور وقضاة الزمان في أمر الدنيا وما يرجع إليها، فهؤلاء قد ضلوا ضلالاً بعيدًا.
إلا أن يتوبوا ويُصلحوا ما أفسدوا، بإصلاح قلب الشيخ حتى يجبر كسرهم، فالمريد الصادق لا يصل إلى الحاكم، ولو ذهب ماله كله، فإن كان ولا بد. فليوكل عنه في ذلك.
فيكيف إذا أصابت هؤلاء مصيبة وهي ظلمة القلب، وفتنة الدنيا بسبب ما قدمت أيديهم من تخطى حكم شيخهم إلى حُكم غيره، ثم جاؤوك يحلفون بالله ما أردنا إلا أحسانًا وهو حفظ مالنا، وتوفيقًا بيننا وبين خصمنا، فيجب على الشيخ أن يُعرض عن عتابهم ويذكرهم حتى يتوبوا، فإن تابوا فإن الله غفور رحيم.

.تفسير الآيات (64- 68):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)}
قلت: {توابًا رحيمًا} مفعولاً (وَجَدَ) أن كانت علمية، أو {توابًا} حال، و{رحيمًا} بدل منه، أو حال من ضميره إن فسرت بصادف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما أرسلنا من رسول} من لدن آدم إلى زمانك، {إلا ليُطاع بإذن الله} وأمره بطاعته، فمن لم يطعه ولم يرض بأحكامه فهو كافر به. {ولو أنهم} أي: المنافقون حين {ظلموا أنفسهم} بالترافع إلى غيرك، والتحاكم إلى الطاغوت {جاؤوك} تائبين {فاستغفروا الله} بالتوبة، {واستغفر لهم الرسول} حين اعتذروا إليه حتى انتصب لهم شفيعًا، {لوجدوا الله} أي: تحققوا كونه {توابًا رحيمًا}، قابلاً لتوبتهم متفضلاً عليهم بالرحمة والغفران. وإنما عدل عن الخطاب في قوله: {واستغفر لهم الرسولُ} ولم يقل: واستغفرت لهم، تفخيمًا لشأنه، وتنبيهًا على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائبين، وإن عَظُم جُرمُهم، ويشفع لهم، ومن جلالة منصبه أن يشفع في عظائم الذنوب وكبائرها.
ثم أقسم بربوبيته على نفي إيمان من لم يرض بحكم رسوله، فقال: {فلا وربك لا يؤمنون} إيمانًا حقيقيًا {حتى يحكموك} أي: يترافعوا إليك، راضين بحكمك، {فيما شَجَر بينهم} أي: اختلط بينهم واختلفوا فيه {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا} أي: ضيقًا وشكًا {مما قضيت}، بل تنشرح صدورهم لحكمك؛ لأنه حق من عند الله. {ويُسلموا} لأمرك {تسليمًا}. أي ينقادوا لأمرك ظاهرًا وباطنًا.
{ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم}، توبة من ذنوبكم، كما كتبناه على بني إسرائيل، أو في الجهاد في سبيل الله، {أو اخرجوا من دياركم} كما خرج بنو إسرائيل حين أمرناهم بالهجرة من مصر، {ما فعلوه إلا قليل منهم} وهم المخلصون. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (لو كتب ذلك علينا أنا أول خارج). قال ثابت بن قيس بن شماس: (لو أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل نفسي لفعلت). وكذلك قال عُمر وعمارُ بن ياسر وابنُ مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أمرنا لفعلنا. فبلغ ذلك النبيُ صلى الله عليه وسلم فقال: «إنَّ مِن أُمَّتِي رِجَالاً: الإيمَانُ في قُلُوبِهِم أثبَتُ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي» فهؤلاء من القليل.
وسبب نزول قوله: {فلا وربك...} الخ: قضية الزُّبَيرِ مع حَاطِب في شرَاج الحَرَّة، كَانَا يسقيانِ به النّخل، فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: «اسقِ يا زُبيرُ وأرسِل إلى جارِكَ» فقال حَاطبُ: لأن كَان ابن عمتك. فقال عليه الصلاة والسلام: «اسقِ يا زُبيرُ، واحِبِس الماءَ حتَّى يبلغ الجدر واستوف حقك» وقيل: نزلت في اليهودي مع المنافق المتقدم، وهو أليق بالسياق.
{ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} من طاعة الرسول، والرضى بحكمه، {لكان خيرًا لهم} في آجلهم وعاجلهم، {وأشد تثبيتًا} في دينهم وقوة في إيمانهم، أو تثبيتًا لثواب أعمالهم، {وإذًا} لو فعلوا ذلك {لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا ولهديناهم صراطًا مستقيمًا} يصلون بسلوكه إلى حضرة القدس، ودوام الأنس، ويفتح لهم أسرار العلوم، ومخازن الفهوم، قال صلى الله عليه وسلم: «من عَمِلَ بما عِلَمَ أورثه الله علمَ ما لم يعلم» والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، أمر بطاعة ورثته بعد مماته، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون في الأحكام، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحي الإلهام، فالعلماء حُكَّام على العموم، والأولياء حكام على الخصوص، أعني من تعلق بهم من أهل الإرادة، فمن لم يرض بحكم العلماء، ووجد في نفسه حرجًا مما قضوا به عليه، ففيه شُبعة من النفاق، وخصلة من المنافقين. ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم، ومن عُش تربيتهم، لأن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحكم ورثته هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان.
فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد في نفسه حرجًا من أحكام الله، القهرية والتكليفية، ويسلم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية، كيفما كان، فقرًا أو غنى، ذلاً أو عزًا، منعًا أو عطاء، قبضًا أو بسطًا، مرضًا أو صحة، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير. ويرضى بذلك ظاهرَا وباطنًا، وينسلخ من تدبيره واختياره؛ إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه، وأرحم به من أمه وأبيه: وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.تفسير الآيات (69- 70):

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
قلت: {رفيقاً}: تمييز لما في {حَسُن} من معنى التعجب أو المدح، ولم يجمع؛ لأن فعيلا يُحمل على الواحد والجمع، أو لأنه أريد حسن كل واحد منهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن يطع الله والرسول} ويرضى بأحكامهما ويمتثل أمرهما ويجتنب نهيهما، {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم}، وهم أكرم الخلق عند الله وأعظمهم قدرًا {من النبيين} والمرسلين {والصديقين} وهم من كثر صدقهم وتصديقهم وعظم يقينهم؛ وهم الأولياء العارفون بالله، {والشهداء} الذين ماتوا جهادًا في سبيل الله، {والصالحين} وهم العلماء الأتقياء، ومن صلح حاله من عامة المسلمين.
قال البيضاوي: قسمهم أربعة أقسام، بحسب منازلهم في العلم والعمل، وحث كافة الناس على ألاَّ يتأخروا عنهم، وهم: الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل. ثم الصديقون الذين صعِدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان، حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليها. ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد في إظهار الحق، حتى بذلوا مُهَجَهُم في أعلاء كلمة الله، ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته، وأحوالهم في مرضاته، ولك أن تقول: المُنعَمُ عليهم هم العارفون بالله، وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان، أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان، والأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب، بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبًا، وهم الأنبياء، أو لا، فيكونون كمن يرى الشيء بعيدًا، وهم الصديقون، والآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة، وهم العلماء الراسخون الذين هم شهداء الله في أرضه، وإما أن يكون بأمارات وإقناعات تطمئن إليها نفوسهم، وهم الصالحون. انتهى كلامه.
وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه أطلق على أهل الاستدلال أنهم عارفون، ولا يقال عند الصوفية فيه عارف، حتى يترقى عن مقام الاستدلال، وإلا فهو عالم فقط، والثاني: أنه جعل الصديقين بمنزلة من يرى الشيء بعيدًا، وأهل الفناء لم يبق لهم بُعدٌ، بل غابوا في القرب حتى امتحى اسمهم ورسمهم. فأيُّ بينونة وأيُّ بُعد يبقى للعارف، لولا فقدان الذوق، ولكن لكلِّ فنِ أربابُه، وسيأتي في الإشارة تحقيق ذلك إن شاء الله.
ثم قال جلّ جلاله: {وحسن أولئك رفيقًا} أي: ما أحسنهم رفقًا في الفراديس العُلى، فهم يتمتعون فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كانوا أعلى منهم، فلا يلزم من كونه معهم أن تستوي درجته معهم، قال في الحاشية: وتعقل مرافقة من دون النبي في المدانات من حاله وكشفه، بحيث لا يحجب عنه، وإن كان لا مطمع له في منزلته، واعتبر برؤية البصائر له وعدم غيبته عنهم وأنسهم به والاستفادة منه، رُوِي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «يزور الأعلَون من أهل الجنة الأسفلين، ولا يزور الأسفلون الأعلين، إلا من كان يزور في الله في الدنيا، فذلك يزور الجنة حيث شاء».
رُوِيَ أن ثَوبَانَ مَولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أتاه يومًا وَقَد تَغَيَّر وَجهُهُ وَنَحَلَ جِسمُهُ، فسأله عليه الصلاة والسلام عن حاله، فقال: ما بي وَجَعٌ، غَيرَ أنِّي إذَا لَمْ أرَكَ اشتقْتُ إليك، واستَوحَشتُ وَحشةً شَدِيدَةً حَتَى ألقَاكَ، ثمَّ ذَكَرتُ الآخِرَةَ فخفت ألا أرَاكَ هُنَاكَ؛ لأني عرفت أنكَ تُرفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ. وإن دخلتُ الجَنَّة، كُنتُ في مَنزلٍ أدون مِن مَنزِلكَ، وأن لَم أدخُلِ الجَنَّةَ فّذَلكَ حَرِيّ ألا أرَاكَ أبَدًا. فنزلت الآية {ومَن يطع الله والرسول...} إلخ.
{ذلك الفضل من الله} إشارة إلى ما للمطيعين من الأجور، ومزيد القرب والحضور، وأنه فضل تفضل على عباده، {وكفى بالله عليمًا} بمقادير الأعمال والمقامات. فيُجازى كُلاًّ على حسب مقامه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الطاعة التي توجب المعية الحسية في النعيم الحسي الجسماني هي الطاعة الظاهرة الحسية. والطاعة التي توجب المعية المعنوية في النعيم الروحاني هي الطاعة الباطنية القلبية. فالمعية الحسية صاحبها مفروق، والمعية المعنوية صاحبها مجموع، لا يغيب عن حبيبه لحظة. هؤلاء هم الصديقون المقربون. وفوقهم الأنبياء، وتحتهم الشهداء والصالحون.
وبيان ذلك أن العلم بالله تعالى: إما أن يكون عن كشف الحجاب وانقشاع السحاب، أعني سحاب الأثر، وهم أهل الشهود والعيان. وإما أن يكون من وراء الحجاب، يأخذون أجرهم من وراء الباب، يستدلون بالآثار على المؤثر. وهم أهل الدليل والبرهان. والأولون إما أن يرتقوا إلى مكافحة الوحي ورؤية الملائكة الكرام. وهم الأنبياء والرسل عليه الصلاة والسلام-، وإما أن يقصروا عن درجة الوحي ويكون لهم وحي إلهام، وهم الصديقون؛ أهل الحال والمقام، فقد اشتركوا في مقام العيانِ. لكن مقام الحضرة فضاؤه واسع، والترقي في معارج أسرار التوحيد غير متناهٍ، فحيث انتهى قدم الولي ابتدأ ترقي النبي، وأما أهل الحجاب فإما أن يكون علمهم بالله بالبراهين القطعية والدلائل السمعية، وهم العلماء الراسخون، وهو مقام الشهداء، وإما أن يكون علمهم بالرياضات والمجاهدات وتواتر الكرامات، وهم العباد والزهاد. وهو مقام الصالحين، ويلتحق بهم عوام المسلمين، لأن كل مقام من هذه المقامات في درجات ومقامات لا يحصرها إلا العالم بها. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (71- 74):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)}
قلت: الحِذر والحَذَر واحد، كالشِّبه والشِّبَه، وبَطًأ يستعمل لازمًا بمعنى ثقل، ومتعديًا بالتضعيف أي: بطَّأ غيره، و{لَمَن ليبطئن} اللام الأولى للابتداء، والثانية للقسم، أي: وإنَّ منكم أُقسم بالله لمن ليبطئن. وجملة: {كأن لم يكن}: اعتراضية بين القول والمقول، تنبيهًا على ضعف عقيدتهم، وأن قولهم هذا قولُ من لا مواصلة بينكم وبينه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا} تأهبوا واستعدوا لجهاد الأعداء، و{خذوا حذركم} منهم؛ بالعُدَّةِ والعَدَد، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولا حجة فيه للقدرية؛ لأن هذا من الأسباب التي ستر الله بها أسرار القدرة. وقد قال لنبيِّه عليه الصلاة والسلام: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} [التوبة: 51] وقال عليه الصلاة والسلام: «اعقلها وتوكل» وفي ذلك طمأنينة للقلوب التي لم تطمئن وتشريعًا للضعفاء، فإذا تأهبتم واستعددتم {فأنفروا} أي: اخرجوا إلى الجهاد {ثُباتٍ} أي: جماعات متفرقة، سرية بعد سرية، {أو انفروا جميعًا} أي: مجتمعين مع نبيكم، أو مع أميركم.
{وإن منكم} يا معشر المسلمين {لمن ليبطئن} الناس عن الجهاد، أول ليتثاقلن ويتخلفن عنه، وهو عبدالله بن أُبُيّ المنافق، وأشباهه من المنافقين، {فإن أصابتكم مصيبة}؛ كقتل أو هزيمة {قال قد أنعم الله عليّ} حين تخلفت {إذا لم أكن معهم شهيدًا} فيصيبني ما أصابهم. {ولئن أصابكم فضل من الله}، كنصر وغنيمة، {ليقولن} لفرط عداوته: {يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزًا عظيمًا}، بالمال والعز. كأن ذلك المنافق، لم يكن بينكم وبينه مودة ولا مواصلة أصلاً، حيث يتربص الدوائر، يفرح بمصيبتكم ويتحسر بعزكم ونصركم.
فإن تثاقل هذا عن القتال أو بطَّأ غيره، {فليقاتل في سبيل الله} أهلُ الإخلاص والإيمان {الذين يشرون}، أي: يبيعون {الحياة الدنيا بالآخرة}، فيؤثرون الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، {ومن يقاتل في سبيل الله} لإعلاء كلمة الله {فيُقتل} شهيدًا {أو يَغلب} عدوه وينصره الله {فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا}، وإنما قال تعالى: {فيُقتل أو يَغلب} تنبيهًا على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة، حتى يعز نفسه بالشهادة، أو الدين بالظفر والنصر. وألا يكون قصده بالذات القتل، بل إعلاء الحق وإعزاز الدين. قاله البيضاوي.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص؛ خذوا حذركم من خدع النفوس، لئلا تعوقكم عن حضرة القدوس، فانفروا إلى جهادها ثُباتٍ أو جماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، فالصحبة عند الصوفية شرط مؤكد وأمر محتم. والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح، فالنفس الحية لا تموت مع الأحياء، وإنما تموت مع الأموات، فهي كالحوت ما دامت في البحر مع الحيتان لا تموت أبدًا، فإذا أخرجتها وعزلتها عن أبناء جنسها ماتت سريعًا.